يعد التلوث بالزئبق تهديدا عالميا لصحة الإنسان، وخاصة على صحة الأجنة والأطفال الصغار، ويتعرض البشر والحيوانات والطيور عندما يأكلون الأسماك والمحار لميثيل الزئبق، وهو النوع الذي يتشكل عندما يتوافر الزئبق في البحيرات والجداول، كما يهدد صحة وتكاثر الأسماك نفسها، وجميع أنواع الحياة البرية الأخرى.
ولهذا فقد عمل العلماء منذ عقود على فهم كيف ومتى يتراكم الزئبق في الأسماك، وفي دراسة نُشرت حديثا بدورية "إنفيرومنتال ساينس آند تكنولوجي ليترز" (Environmental Science & Technology Letters) يوم 14 ديسمبر/كانون الأول 2022، توصل الباحثون لطريقة جديدة تعكس تعرض الأسماك للزئبق.
حصى الأذُن تقيس مدى التلوّث
بحسب تقرير كتبه الباحثون المشاركون بالدراسة ونشر على موقع "ذا كونفرزيشن" (The Conversation) استخدم العلماء الغَبَرَة الأُذُنُيَّة للأسماك (Otoliths) -المعروفة باسم "حصوات الأذن"- لاكتساب نظرة ثاقبة حول نمو الأسماك، والهجرة، والنظام الغذائي، وتوقيت تعرضها لبعض الملوثات لعقود من الزمان.
وتتكون هذه الهياكل الصغيرة (بحجم حبة البازلاء تقريبا) داخل الأذن الداخلية للأسماك، وتتألف من كربونات الكالسيوم، حيث تساعد في تنظيم السمع والتوازن، لكن بعض الملوثات، بما في ذلك الزئبق، لا يتم دمجها في حصوات الأذن، ولكنها ترتبط بشدة بالأنسجة التي تحتوي على الكبريت، مثل أنسجة العضلات، ولهذا السبب تم استخدامها تاريخيا لتقييم التلوث بالزئبق.
واليوم، يحلل العلماء امتصاص الزئبق في الأسماك عن طريق قياس مقدار ما يتراكم منه بالأسماك الكاملة، أو في كثير من الأحيان بأنسجة العضلات فقط، وعندما تنمو السمكة وتتقدم في العمر، تضيف حصوات الأذن طبقات من كربونات الكالسيوم.
ورغم أن هذا النهج يخبرنا بكمية الزئبق التي تراكمت لدى الأسماك على مدار حياتها، لكنه عادة ما يكون الطابع الزمني مفقودا، فلا يخبرنا على وجه التحديد متى تعرضت الأسماك في حياتها للزئبق.
أدلة في آذان وعيون الأسماك
في الدراسة الجديدة، اقترح الباحثون طريقة جديدة تجمع بين قياسات شيخوخة حصوات الأذن، والزئبق في عدسات عيون الأسماك، لتحديد الأعمار المرتبطة بتركيزات الزئبق من خلال قياس تركيزه في عيون الأسماك، ويفتح هذا العمل إمكانيات جديدة لفهم تعرض الأسماك لهذه المادة السامة للأعصاب على مدى حياتها.
ويبدو أن ميثيل الزئبق يتم تراكمه بشكل تفضيلي في أعضاء معينة، بما في ذلك عدسات العين بالجرعات العالية، وقد يضعف رؤية الأسماك في النهاية. ولذلك، فمع نمو عدسة العين وتراكم الزئبق، يمكننا تحديد متى تعرضت السمكة للخطر، ولأن عدسة عين السمكة تنمو في طبقات طوال الحياة، فيمكننا متابعة التسلسل الزمني للتعرض للزئبق على مدى حياتها.
وقد تم تقدير عمر الأسماك ومعدلات نموها عن طريق قياس المسافة بين طبقات النمو الحلقية السنوية، لتتبع التسلسل الزمني لتعرض السمكة للزئبق طوال فترة حياتها، مثلها مثل أشجار الغابات، عن طريق قياس حلقات النمو في جذوعها.
ولأن عدسات العين مصنوعة من بروتين نقي، وتحتوي على نسبة عالية من الكبريت، فبالتالي تمتص الزئبق بسهولة إما مباشرة من الماء أو من النظام الغذائي للأسماك، وبالإضافة إلى التغيرات في انبعاثات الزئبق بمرور الوقت، يمكن أن تؤثر حركات الأسماك ووجباتها الغذائية بشكل كبير على تعرضها للزئبق.
ميزات هذه الطريقة في قياس التلوث
تكمن قوة هذه الطريقة في أنها توفر معلومات عن الأسماك، وهو أمر مهم تماما كما هو الحال بالنسبة للإنسان، حيث تتمتع الأسماك بقدرات متباينة على صيد الفرائس وتجنب الإجهاد أو تحمله، وكل ذلك يمكن أن يؤثر على نموها وتعرضها للزئبق.
ويمكننا طرح أسئلة حول كيفية تأثير أحداث تاريخ حياة الأسماك، مثل الهجرة وتغيرات النظام الغذائي، أو الأحداث الزمنية مثل انخفاض مستويات الأكسجين المذاب بالماء في أوقات معينة من العام، على مستويات الزئبق في الأسماك.
كما يمكن أن يساعد الحصول على معلومات -حول التعرض للزئبق لجميع الأعمار في حياة سمكة واحدة- في تقليل الحاجة إلى جمع عينات كبيرة من العديد من الأسماك عبر جميع الأعمار، وهي الطريقة السابقة التي كان يقوم بها العلماء تقليديا لتقييم كيفية تغير تعرض الأسماك للملوثات بصفة عامة والزئبق بصفة خاصة على مدار حياتها.
كيف يؤثر تغير المناخ على الأسماك؟
قد تساعدنا هذه الطريقة الجديدة أيضا في فهم كيفية تأثير تغير المناخ على تعرض الأسماك للزئبق، فمع ارتفاع درجة حرارة المياه، تفقد الأنهار والبحيرات ومصبات الأنهار والمحيطات بعضا من الأكسجين المذاب.
وعندما ينخفض الأكسجين إلى أقل من 2 ملليغرام لكل لتر، مقارنة بالمستويات الطبيعية من 5 – 8 ملليغرامات لكل لتر، يُقال إن هذا الجسم المائي يعاني من نقص الأكسجين، وفي المقابل يمكن أن ترتبط ظروف نقص الأكسجين بتركيزات مرتفعة من ميثيل الزئبق.
ويمكن أن تؤدي زيادة نقص الأكسجين إلى إبطال الجهود العالمية الأخيرة لتقليل انبعاثات الزئبق، من خلال جعل الزئبق الموجود بالفعل في البحيرات والمحيطات أكثر توفرا لامتصاصه في الأسماك.
ويتفاقم فقدان الأكسجين هذا بسبب تلوث المغذيات -على سبيل المثال- من الجريان السطحي في المناطق الحضرية أو الزراعية. ولكن يمكن أن يحدث أيضا في المحيطات المفتوحة، بعيدا عن القارات، بسبب الاحترار.
إرسال تعليق