عُرض في منتصف التسعينيات من القرن العشرين فيلم اعتبره كثيرون حينها صدمة سينمائية، وعلامة على ظهور مخرج جديد سيضيف الكثير للفن السابع الذي مرعلى ظهوره مئة عام تقريبا، ويحمل هذا الفيلم عنوان "سبعة" (Se7en) وأخرجه الشاب -وقتها- "ديفد فينشر"، ليصبح نقطة انطلاق لمسيرة مهنية محط أنظار كثيرين، حتى لو ثارت حولها بعض علامات الاستفهام بعد تراجع مستوى أعماله الأخيرة.

وفيلم "القاتل" (The Killer) أحدث محطات مسيرة "ديفد فينشر" الإخراجية، وبدأ عرضه مؤخرا على شاشة "نتفلكس" بعد عرضه الأول في مهرجان البندقية السينمائي، وأصبح الأعلى مشاهدة على المنصة.

ولكن عدد المشاهدات ليس هو الفيصل الوحيد لجودة الفيلم من عدمها، فعلى موقع التقييمات النقدية "روتن توماتوز" حاز الفيلم على نسبة 60% فقط من الجمهور، وهو ما يظهر إحباطهم من العمل.

فيلم "القاتل" مقتبس عن رواية مصورة فرنسية تحمل الاسم نفسه، ومن بطولة "مايكل فاسبندر" و"تيلدا سوينتون" و"تشارلز بارنل"، ونافس في المسابقة الرسمية بمهرجان البندقية، ولكن لم يفز إلا بجائزة أفضل موسيقى تصويرية.

الحوار الداخلي هو البطل

عنوان فيلم "القاتل" ليس فقط مجرد مفتاح لفهم طبيعة الفيلم، ولكنه في الحقيقة كل ما يقدمه المخرج لمشاهديه، فالعمل يدور بالأساس حول رحلة "قاتل" لم يتم الإفصاح حتى عن اسمه.

فالمنولوج الداخلي -أو الحوار الداخلي- هو الطريقة التي يستخدمها صناع فيلم "القاتل" في سرد حبكته، إذ إن الحوار بين البطل والشخصيات الأخرى محدود للغاية، بينما يدلف المشاهد مباشرة منذ البداية إلى عقل الشخصية الرئيسية الذي يجلس وحيدًا في شقة مهجورة بباريس، يستعد لعملية القتل القادمة له بجسد شبه آلي، يتحكم صاحبه حتى بنبضات قلبه، ساكنًا مثل التمثال من الخارج، ولكن بداخله تموج أفكار لا تهدأ.

يخبرنا "القاتل" عن مهنته التي ترتكن على مبادئ وضعها لنفسه، فهو لا يقتل بدافع أخلاقي أو تحت لواء علم أو دين، بل يقتل لمن يدفع أكثر، وتتمثل فلسفته في أن الحضارات قامت على تحكم أقلية في أغلبية، لذلك يعتبر نفسه ضمن هذه الأقلية ذات اليد العليا، ويفخر بأن تاريخه لا يحمل أي فشل.

ولكن رغم صوته الداخلي الواثق، وعمليته ذات الخطوات شديدة الإحكام، فإن ما نراه على الشاشة يتضاد مع ما يقوله تماما، فيخفق في إصابة هدفه، وهو ما يبدأ سلسلة من التداعيات لا يعلم مداها إلا عندما يعود إلى منزله، فيجد شريكة حياته في المستشفى بعدما اعتدى عليها من حاولوا الوصول إليه لقتله.

ومن هنا تبدأ الرحلة الحقيقية للقاتل الذي يترك كل شئ خلفه ويبدأ في مسعاه للانتقام، يُبيد كل من تصل إليه يداه من المعتدين بدماء باردة ويدين ثابتتين، والمشاهد يتابع هذه العمليات المصممة بدقة، مستمعا إلى صوت القاتل الداخلي وأفكاره.

ومع اعتماد الفيلم على الحوار الداخلي تظهر أهمية هذا الحوار، فبسبب ندرة الأخير تصبح لكل كلمة معان دقيقة توضح إطار هذا العالم الموازي الذي تعيش فيه الشخصيات الفيلمية، فكل من ظهر على الشاشة تقريبا من القتلة الذين لا يتفاهمون إلا بلغة الدم، وبشكل عملي تمامًا يعرفون أن مصير كل واحد منهم الموت العنيف في أحد الأيام. ففي المشهد الذي يجمع البطل مع القاتلة التي ضربت وشوهت شريكته، تخبره أن أشق ما مرت به هو هذه الدقائق الحالية وهي تعرف أنها ستموت بعد قليل، فهي لم تعذب أيا من ضحاياها بهذا الشكل، بل باغتتهم بالموت قبل أن يدركوا ما سيحدث لهم.

أحبه النقاد وكرهه الجمهور

يَظهر على موقع "روتن توماتوز" التضارب الكبير بين النقاد الذين رأى جزء كبير منهم أن فيلم القاتل خطوة للأمام في مسيرة المخرج تمثل امتدادا لرؤيته السابقة، بينما كرهه بعض المشاهدين واتهموه بأنه "ممل ومدع"، ولكن كلا وجهتي النظر صحيحة بشكل ما.

لا يقدم فيلم "القاتل" مشاهد "حركة" مميزة، ولا حتى طرق قتل مثيرة، ويعتمد بالأساس على حبكة مكررة ومعادة في مئات الأفلام من قبله، يقوم فيها البطل بالانتقام لأحد أحبائه الذي اعتُدي عليه أو عليها بسبب أفعاله، واعتمد الفيلم بالأساس على إيقاع هادئ للأحداث، يشبه حركات اليوغا التي دأب البطل على القيام بها على مدار الفيلم، وبالتالي فالمشاهد يسبق البطل بعدة خطوات، ويتوقع ما سيقوم به، فلم يعد هناك أي شيء يصلح لمفاجأته أو إبهاره.

بينما على الجانب الآخر بالنظر إلى أفلام ديفد فينشر السابقة، خاصة تلك التي تناولت شخصيات قتلة متسلسلين مثل "سبعة" و"زودياك" (Zodiac)، أو أشخاص مضطربين يستخدمون العنف لحل مشاكلهم مثل "نادي القتال" (Fight Club) و"الفتاة ذات وشم التنين" (The Girl with the Dragon Tattoo) و"فتاة غائبة" (Gone Girl)، نجد أن المخرج معني بنوع محدد من الشخصيات القادرة على وضع عواطفها البشرية الاعتيادية جانبا، شخصيات مهووسة بنفسها ونرجسية للغاية، حتى وإن كانوا مجرد قتلة مختلين.

يُعتبر فيلم "القاتل" امتدادا لهذه الأفلام، وخطوة جديدة لدراسة فلسفة القاتل النرجسي، فهذه المرة في عام 2023 ومع اختلاف الزمن والتكنولوجيا وطبيعة العالم نفسه، وعوضا عن متابعة الجرائم التي يقوم بها البطل للانتقام، فإن الدافع الأساسي وراء الفيلم هو دراسة الشخصية والفلسفة التي تدفعها للعمل في هذه المهنة، والطريقة التي مكنتها من التفوق فيها، وكيف تعامل القاتل مع عثرته الكبيرة التي كادت أن تنهي حياته.

ولكن باستبعاد اسم المخرج وأفلامه السابقة، نجد أنفسنا أمام فيلم خائن لنوعه، يَعِد بأنه تشويق وإثارة وحركة، وفي الحقيقة هو دراسة شخصية، الأمر الذي أحبط آمال المشاهدين وكسر أفق توقعاتهم بأعنف طريقة ممكنة، مما جعلهم يصفونه بأنه ممل ومدع.

فيلم "القاتل" بالتأكيد لا ينافس على لقب أفضل أفلام ديفد فينشر، ولا يقترب حتى من المركز الثاني، ولكنه خطوة للأمام خصوصا وأن أعماله الأخيرة لم تشهد نجاحا كبيرا، فكان عليه العودة إلى الماضي، وتقديم فيلم يحيي عبره نجاحاته السابقة.

المصدر : الجزيرة + وكالات

Post a Comment

أحدث أقدم